ما كانت سواحل عمان تحتل الأهمية الكبرى في مجال حركة التجارة والتبادل الدولي فإن ساحل ظفار قد تميز بخصوصية في هذا الدور العماني، وترجع تلك الأهمية إلى عدة عوامل :
هي:أولا:العوامل السياسية والاستراتيجية:
ذلك أن ساحل ظفار القريب بحكم موقعه من الساحل الافريقي من جهة ومن مدخل سواحل البحر الأحمر،أصبح همزة الوصل بين قوتي وحضارات ومدنيات الخليج العربي وبلاد الرافدين من جهة؛وبين مدنيات وادي النيل من جهة وموانيء البحر الأحمر من جهة ثانية،حتى أن اللقاء المبكر بين حضارات بلاد الرافدين القديمة في العصر السومري وبين حضارة الفراعنة في عصر الدولة القديمة قد تم على أرض ظفار ، أثناء عمليات جلب اللبان والبخور وسلع المحيط الهندي من ظفار.
وإذا كان السومريون قد اعتمدوا مراكز عمانية أخرى في علاقاتهم مع حضارات هارابان وماهنجو دارو بالهند وكذلك مع سواحل مليبار فإن فراعنة مصر قد اعتمدوا على خبرات أهل ظفار في الوصول إلى سواحل الهند الغربية، وإن تلك الصلات المصرية قد ازدهرت بصورة رسمية في العصر البلطمي فيما بعد.
وإذا كان الخليج العربي قد استمر في تفوقه في التجارة العالمية في العصرين السومري والبابلي، فإنه يتعرض لانتكاسه في العصر الآشوري، وبالتالي فإن السواحل العمانية الشمالية والشرقية قد تعرضت للإهمال، وذلك بسبب اتخاذ الآشوريين مدينة نينوى عاصمة لهم، وهي مدينة جبلية بعيدة عن الطرق البحرية ومرتبطة بالطرق البرية عبر أواسط آسيا والأناضول.
استمرت ظفار في أداء دورها حتى أنها وبالإضافة إلى منطقة جنوب الجزيرة
العربية،أصبحت المنفذ الأساسي لجلب تجارة المحيط الهندي إلى اليونان ثم الرومان، خاصة وأن الرومان قد ورثوا العداء ضد الفرس فأصبحت عملية تأمين الطرق البحرية إلى الهند من أوليات السياسة الرومانية.
فأرسلوا حملات استكشافية وعقدوا معاهدات تجارية ومهدوا الطرق. وكان عهد الامبراطور تراجان نموذجا على ذلك فقد عقد معاهدة مع حاكم ظفار 105م ونهض بالطرق البرية والبحرية.عوضا عن الطرق البرية والبحرية التي تحمل بضائع الشرق وتمر عبر أراضي فارس أو تقترب من سواحلها.
ويتضح أن أهل ظفار قد تمكنوا من تأمين السلع الافريقية من منطقة القرن الافريقي إلى سواحلهم، كما كانت لهم جالياتهم الاساسية على هذا الساحل في الوقت نفسه أصبحت السلع المتوفرة في ظفار مثل اللبان والعنبر بالإضافة إلى الصبر والمر،وهي سلع أساسية في الطب والاستطباب والغذاء، أصبحت تلك السلع متوفرة لدى تجار ظفار. بالاضافة إلى منتجات الهند المتنوعة ومنطقة جنوب شرق آسيا، وبذلك أصبحت منطقة ظفار نقطة هامة في سياسات الدول والقوى العالمية حتى ظهور الاسلام.
ثانيا: العوامل الأمنية:
رغم أهمية الخليج العربي في حمل السلع وتجارات المحيط الهندي لأسباب جغرافية وبشرية فإنه تعرض في بعض الأحيان لاضطرابات بسبب أعمال القرصنة التي كانت تهدد الملاحة وحركة التجارة فيه.وكان هذا الأمر يتم في حالة عدم وجود قوة سياسية في المنطقة،وقد ظهر هذا الأمر جليا في حالتين،الأولى قبيل العصر الساساني وفي بدايته حتى تمكن اردشير ولبنه سابور من وضع حد لنشاط القراصنة، فطهرا المنطقة من القراصنة الذين امتد نشاطهم حتى شمال الخليج.
والحالة الثانية أثناء امتداد حركة الفتوحات الإسلامية وما ترتب عليها من الصدامات الكبرى مع الفرس حتى انهارت قوتهم،فأصبحت ساحة مياه الخليج العربي خالية أمام نشاط القراصنة من جديد، وقد ظهر ذلك بصورة جلية منذ بداية العصر الإسلامي حينما اشتكى تجار الخليج من تهديد القراصنة لتجارتهم،إلى والي البحرين وعمان وهو عثمان بن ابي العاص الثقفي، فقام الوالي بتجهيز حملة بحرية كبرى سنة15هجرية،واتجه صوب معقل هؤلاء القراصنة في منطقة مثلث جوجيرات والسند على السواحل الهندية.
ورغم فشل تلك الحملة عسكريا إلا أنها كانت مؤشرا واضحا على وجود هذا الخطر في المنطقة،وقد استمرت تلك التهديدات حتى وضع الحجاج بن يوسف الثقفي حدا لها أثناء حملة
صهره محمد بن القاسم 92 هجرية.وفي الوقت ذاته أصبحت منطقة ظفار وسواحلها تتمتع
بظروف مكنتها من القبام بالدور التجاري الوسيط في ظل منظومة موانئ البحر الأحمر وعدن.
كما أن أهالي ظفار اتبعوا نظما لتوفير الأمن والاستقرار والطمأنينة للنواخذه والتجار تمثل ذلك في حسن الاستقبال والترحيب والقيام بأعباء الميناء على خير وجه، حتى وصلت إليها تجارات الصين والهند وغير ذلك.وارتبطت بهم سلع هامة مثل اللبان وغير ذلك عند شعوب المحيط الهندي والصين.
ثالثا:العوامل الطبيعية:
ويتمثل ذلك في أمرين هما:
1)الموقــــــع:
ظفار يمتد ساحلها امتدادا طبيعيا مع دوران التيار البحري الذي يتجه من جنوب المحيط الهندي إلى الشمال عبر السواحل الافريقية الشرقية ثم يأخذ في الدوران صوب الشمال الشرقي إلى ساحل ظفار، في الوقت الذي يبتعد فيه عن خلبج عدن.
ساعد هذا الأمر على ارتباط ظفار بشبكة موانئ تجارية عديدة،حتى أن أصبحت ظفار همزة الوصل بين حضارات ومدنيات وأقاليم متنوعة تمتد من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، كما أنها أصبحت الوسيط المعتمد بين تلك الحضارات والمدنيات والأقاليم، فمن جهة
الشرق والغرب ربطت بين شرق القارة الافريقية وبين سواحل الهند وجنوب شرق آسيا. كما ربطت ظفار بين حضارات ومدنيات الشمال مثل بلاد الرافدين ومصر وبين أقاليم شرق افريقيا،كما ربطت ظفار بين سواحل الخليج العربي من جهة وبين سواحل البحر الأحمر من جهة ثانية،الأمر الذي جعل المؤرخين يقرون أن اللقاء الأول والبكر بين حضارة السومريين في العراق وبين الحضارة الفرعونية في مصر قد تم على أرض ظفار لأهمية هذا المكان للطرفين.
2)الموضـــــــــع:
امتلكت ظفار امكانيات طبيعية هامة بسبب ظروفها الطبيعية فبحكم امتداده يتكون اقليم ظفار من ثلاثة أنماط من التضاريس هي:السهل الساحلي ونطاق المرتفعات ثم نطاق الكثبان الرملية. فالسهل الساحلي الذي يمتد لمسافة 400 كم من السواحل العمانية على هيئة أقواس ثلاثة تبدأ بقوس خليج كوريا موريا(الحلانيات). وقد يسر وضع هذا الساحل التضاريسي
وامتداد جبال القرا على هيئة قوس إلى الشمال منه إلى تمتعه بكمية هامة من الأمطار الموسمية الصيفية.مما جعله مكانا مناسبا لإنتاج العديد من المحاصيل الزراعية.
كما سهل ارتباط هذا السهل بنطاق المرتفعات ومنحدراتها إلى أنه أصبح المنفذ لبقية الأنماط التضاريسية لاقليم ظفار، فتجمعت على أرضه أجود أنواع اللبان والمر وغير ذلك من سلع ومنتجات المرتفعات، ويمكن اعتبار هذا الساحل الظفاري بأنه أصبح رصيف ظفار بكافة أنواع تضاريسه،فظهرت على الموانئ والمراكز التجارية.
أما نطاق المرتفعات التي تمتد إلى الشمال من السهل الساحلي من جدة الحراسيس شرقا حتى حدود اليمن جنوبا بمسافة تبلغ حوالي 192كم وبإرتفاع يتراوح بين1000و1500م. ويتكون هذا النطاق من جبال سمحان شرقا وجبال القرا شمال سهل صلالة وجبال القمر إلى الجنوب، ويكسو هذا النطاق غطاء نباتي أصبح من الناحية البيئية مناسبا لقيام ووجود مراكز هامة لإنتاج الثروة الحيوانية وما يرتبط بها.
أما النطاق الثالث وهو نطاق الكثبان الرملية فقد أعطى امتدادا استراتيجيا لظفار حيث مكنها من الإنفتاح والإتصال ببقية أقاليم شبه الجزيرة العربية من جهة الداخل، كما أعطى لموانئ الساحل الظفاري عمقا استراتيجيا هاما، وأصبح هذا النطاق بمثابة واجهة خلفية لظفار على حركة التجارة والتبادل البرية داخل شبه الجزيرة العربية، ويتضح من تتبعنا لتلك الشبكة البرية أنها كانت تتصل بالطرق والمراكز التجارية المنتشرة عبر شبه الجزيرة العربية من الشرق والغرب والشمال والجنوب.كما أنها كانت تتصل بالموانئ البحريةعلى الخليج العربي.
وبذلك احتلت ظفار أهميتها الكبرى عبر شبكات الطرق البرية في شبه الجزيرة العربية،كما
احتلت مكان الصدارة على لوحة موانئ المحيط الهندي،وكانت ظفار تمثل دور القلب في تنظيم حركة التبادل التجاري المستمر للسلع الافريقية والهندية.كما انها همزة الوصل بين عالم وحضارات المحيط الهندي من جهة وبين احتياجات شعوب البحر المتوسط عبر البحر الأحمر.
شبكة الطرق البرية والبحرية المرتبطة بظفار:
أولا:شبكة الطرق البرية:
وهي شبكة تمتد عبر صحراء شبه الجزيرة العربية وترتبط بين أقاليمها وسواحلها من جهة، كما تربط بين شبه الجزيرة العربية وبين منطقة غرب آسيا والهلال الخصيب بل أنها تمتد إلى منطقة الشمال الافريقي عبر سيناء أو صحراء مصر الشرقية .
وبذلك نسجت ظفار أول شبكة للتجارة البرية عرفها العالم القديم، وتأتي أهمية ظفار في تلك الشبكة البرية إلى إنتاجها لسلعة اللبان الاستراتيجية لسكان ومدنيات العالم القديم، حيث تغطي أشجار اللبان مساحة كبيرة من أرض ظفار، وكانت تلك الطرق البرية تستخدم البغال والحمير والخيل والجمال منذ العصور القديمة. كما ارتبطت ظفار بأسواق العرب القديمة مثل سوق الشحر المجاور لها وحضرموت وغيرها من الأسواق في شبه الجزيرة العربية.
ويمكننا تحديد خطين من خطوط التجارة البرية التي تتجه من ظفار صوب الجزيرة شبه الجزيرة العربية وهما:
الأول: صوب حضرموت وشبوه وتيماء ومأرب باليمن لحمل اللبان والبخور إلى اليمن ومن ثم إلى الحجاز وأبلة وبصرى إلى الشام.وقد اهتم الرومان بهذا الطريق حتى ظهور الإسلام، نظرا لأهميته في جلب تجارة اللبان والمر وغير ذلك.
الثاني: وهو خط القوافل المتجهة من اليمن وحضرموت وظفار صوب داخلية عمان وقد يمر هذا الطريق بنزوى ثم يتجه صوب منطقة الظاهرة إلى عبري وتوام وليوا ويصل حتى جهرا والمشقر.ويستمر في سيره شمالا حتى يصل إلى كاظمة وشمال الخليج العربي.ويتفرع من هذا الخط عدة طرق عبر الأودية إلى سواحل الخليج العربي في عمان وإلى داخل الجزيرة عبر اليمامة ونجد.
ثانيا: شبكة ومنظومة الموانئ البحرية:
ساعد موقع ظفار على ارتباطها بكافة شبكات الموانئ البحرية المطلة على سواحل المحيط الهندي وجزره من جهة وكذلك بالمنافذ البحرية المطلة على هذا المحيط والتي تصل تجارته إلى الشرق الأوسط وحوض البحر المتوسط من جهة ثانية.
ويمكننا تتبع الموانئ البحرية التي ارتبطت بظفار كما يلي:
1) موانئ البحر الأحمر: وهي ميناء جدة وميناء برينكي وميناء ميوس هو رموس وميناء عدول(أندوليس).
2) موانئ وجزر شرق افريقية: وهي موانئ القرن القرن الافريقي،وميناء بات(باتا)،وميناء زنجبار، وميناء موزمبيق، وميناء سفالة الزنج(سوفالا)،ميناء مدغشقر(ملاغاسي حاليا)،ميناء جزر القمر(الكومور).
3) موانئ خليج عدن وجزيرة سقطرى.
4) موانئ المحيط الهندي والخليج العربي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق